هدنة مع السكري!

تبدأ التجهيزات اللازمة للاحتفال بالـ(فلانتيان) والذي يتزامن مع ذكرى الصباح الباهت الذي دخلت فيه المستشفى العام المنصرم.
من الذي قرر نقلي من البيت إلى الإنعاش؟ وأتذكر جيداً في خضم التساؤل الصراع المضني مع رئتي للقيام بوظيفتها الروتينية المتمثلة في الشهيق والزفير بسهولة وانسيابية لم استشعر نعمتها إلا بعد أن فرغت من صلاة الفجر التي استحالت من مجرد ركعتين خفيفة إلى صلاة تراويح و تهجد أو خيل لي ذلك!
أشعر أن شيئاً خانني، قد ظننت أنني أستطيع فعل شيء يحول دون تشخيصي بأي مرض.. دون أن استسلم للأطباء! إلا أن بعض الظن إثم خاصة إذا تعلق الأمر بالحياة والقدرة على مواجهة الموت.
كل قوة تحولت إلى ضعف. وخرجت معلنة استسلامي عن المقاومة ؛ والمقاومة مصطلح مألوف في ثقافتنا العربية تشربناه حتى هرمنا ونحن نقاوم، إلا أنه وبعدد التجربة ليس كل شيء قابلاً للمقاومة، كما أنه لا ضير من الاستسلام أو التسليم في بعض الحالات تاركين الحياة تأخذ دورتها.
أتذكر جيداً تفاصيل الصباح وإن ادعيت نسيانها في بعض الأوقات وذلك لتجنب الألم الذي نعيشه من جديد مع الذكرى. أتذكر جيداً صوت أمي، وجه والدي، نظرات أخواتي، كوب العصير الذي حاولت تجرعه لأطمنهم أن الوظائف الحيوية تسير وفق خطتها الدقيقة التي ابتدعها الله، أتذكر جيداً أنه مفاجأتي أن لا مجرى للعصير ولا مجال لتدفقه.. كل شيء مسدود! لا هواء يدخل ولا ماء ولا عصير! شيء لم أعهده. أتذكر جيداً محاولات عدم سماعي لتكهنات الأطباء خوفاً مما قد تحمله من أخبار سيئة وهرباً من اليوم الموعود لهم لتصفية حسابات قديمة بينا.
كنت أخفي الآثار الزرقاء من نقص الأكسجين الموزعة على جسمي، والأمور الجلدية الأخرى حتى تتدرج المصيبة ظناً من أنها تكون أخف هكذا، إلا أن إحدى الممرضات مخلصة بما يكفي فرأت بقع الدم على ملابسي فكشفت سراً حاولت تأجيله حتى تأتِ المصائب فرادا!
لا يمكنني نسيان الضيق الذي ألحقه قناع الأكسجين الذي لا مثيل لحجمه بي.. أشعر أنه زاد الاختناق ولم يحله. أول مرة استشعر الضعف وكأن الدنيا وقفت ضدي.
لا أعرف السبب الذي نقلني من غرفة الإنعاش إلى غرفة العناية المركزة.. ولم أحاول المعرفة! وهنا اكتشفت صفة جديدة لدي وهي الخوف من المرض.. كنت أخشى تشخيصاً يجعل حياتي مهددة وإن كنت أرى أن كلام الأطباء علمي غير دقيق ولا يسعني المقام هنا لتبرير أو شرح قولي.
وهناك أرض الغرفة وجدرانها وسقفها كلها اتحدت في لون واحد.. كان بودي أن أقول لا لون لها إلا أن لها لوناً ( أزرق) لون السماء الرحيبة! لون الحياة يفقد كل معاني الحياة.
في تلك الغرفة كأن الدنيا نزعت معانيها وألوانها وصفاتها.. حتى أن الورد وهو الذي يساعد المريض على الشعور بالحياة منعوه خوفاً على أكسجيني الضئيل من التناقص! غير أن رئتي لا يدخل إليها إلا هواء برائحة المعقم واليود!
ولأول مرة أنا التي اعتدت الهرب من زحام الناس والجلوس بهدوء وانفراد أبحث عن أي صوت بشري.. أبحث عمن يرد علي الصوت كما يقولون.. تتسلل والدتي في آخر المساء بالتنسيق مع موظفي الأمن وذلك بعد فراغ الموعد المسموح للزيارة لتقطع علي الليل الموحش وآنين المرضى المفزع بعد أن ينتهي أثر البنج أو المخدر.. ولا يمكن أن أحكي لكم عدد الصدمات أو ضربات الإنعاش التي سمعتها لإعادة مريض إلى الحياة وأصوات غريبة تنذر بحالة خطر للمريض في الغرفة التي بجانبي مباشرة! هناك عالم آخر لحالة ليست بالحياة ولا الموت.. عالم بين الحياة والموت!
لا أتذكر كم لبثت؛ إلا أنني في كل مرة يزورني الطاقم الطبي في جولتهم اليومية التفقدية أبادرهم بالسؤال عن ميعاد خروجي من هذا العالم.. من العناية.. ولا أتذكر إلا إجابة ذلك الطبيب المخالفة لأدبيات المهنة (قريباً إلا أن السكري سيرافقك فهل يمكنك العيش مع مرض مزمن مثله) كانت المرة الأولى التي اعرف فيها عن مشكلة بنكرياسي والمرة الأولى التي أشعر فيها بخطورة هذا المرض والمرة الأولى التي يتحدث معي إنسان بدون إنسانية!
زال الخطر وانتقلت إلى سجن أفضل قليلاً.. على الأقل اتيحت لي فرصة النهوض من السرير مع عدد أقل من الأجهزة الملصقة على جسمي المليء بآثار ما جنته أيدي الأطباء والممرضات وأجهزتهم.
وهنا تعرضت لأزمة لم أفهمها ولم أمر بها من قبل اثناء نومي، وعرفت أنها أزمة انخفاض سكر، وأنه علي الاحتراز من ذلك وأخذ الموضوع عل محمل الجد وتفادي تلك الأزمة بتناول ما يرفع مستويات السكر قبل النوم. لا أخفيكم أن حصيلة معلوماتي الطبية ضئيلة إن لم تكن معدومة؛ لذا كنت المتلقي المثالي لمعشر الأطباء وأخصائي التغذية ومثقفي السكر لإفراغ حصيلتهم التراكمية وإرضاء غرورهم!
لم اشعر بصعوبة المرض في المستشفى، ولأن (كل الناس فيهم سكر) كما يردد الأهل والأصدقاء أثناء تأدية واجب زيارتي، استسخفت الأمر وما أيد حكمي هو أن الوضع في المستشفى.. فالأكل معد بدقة بما يتماشى مع احتياجات جسمي ولا يتعارض مع مرضي.. ومهمة تنظيم جرعة الإنسولين وغرز الإبر على عاتق الممرضات.. غير أنه في الأيام الأخيرة قبل خروجي بدأت النصائح الطبية لتأهيلي للتعامل مع المرض من حيث الأعراض المصاحبة للارتفاع والانخفاض، والآثار الخطرة التي نتنج عن إهماله، بالإضافة إلى طريقة احتساب الجرع الخاصة بالإنسولين للوجبات.. وهنا بدأت أشعر أن الموضوع أصعب مما تصورت، وقد كانت تبدو محاولة مخالفة نصائح الأطباء نوعاً من الانتحار. وختم الطبيب كلامه بضرورة اعتبار السكري صديق لأنه يصدق معي إن أحسنت له بالطعام المناسب والرياضة واحترام رغباته ويفتك بي في الحالة المعاكسة. إلا أنني رفضت إضفاء هذا الوصف عليه لأن الصديق على الحلوة والمرة كما تعملنا دون الانتقام. وحاولت الاكتفاء بعقد هدنة بيني وبينه على أنني سأتخلص منه حتى وإن قرر الأطباء أنه لا حل مع سكري نوع الأول. وبدأت فهم أنواع السكري والتمايز بينها. وكما تقبلت المرض تقبلت ما هو أهون منه،  وأدخلت إلى نظامي الغذائي الكثير من الأصناف التي كرهتها دون سبب و كان على رأسها السمك الذي اختار أخصائي التغذية أن يكون غدائي غالب أيام تواجدي بالمستشفى ولم أقاوم ذلك ولم أعلن أنني لم أذق السمك مسبقاً.
وكان يوم الإفراج يوم صدور البراءة إلا أنه مشروط؛ مشروط بالالتزام بـ أربعة إبر إنسولين في اليوم وبنظام غذائي متوازن مع قائمة طويلة بما يجب علي أكله وتجنبه. وكان الصنف الواجب التنجنب هو الأحب لقلبي خاصة وأنني أؤمن أن الطعام من أنواع النعيم وهو ما أكدته آيات القرآن بالنعيم الموعود لأهل الجنة. كنت أفكر وقتها فقط في خريطة للحياة تجعلني أكثر بعداً عن المستشفى.
الرجوع للبيت مرحلة مهمة للشعور بالصحة والعافية واستعادة دوران الحياة. بدأت أفهم بالمخالفة للسائد (كل الناس فيهم سكر) أن ذلك لا يعني تهوينه أو تسخيفه. ومن يعرفني يدرك أنني بطبعي لا أهول الأمور ولم اعتد على ذلك؛ غير أن التجربة تتطلب مني قول ذلك.
مراقبة السكر المستمرة خلال اليوم، السيطرة على انفعالاتي وحالتي النفسية، نوعية الغذاء وكميته محسوبة بدقة رياضية افتقدتها سابقاً، التنويع في الأماكن المحددة لضرب الإبر وما تخلفه من كدمات، والأهم ( وقت النوم) والذي يتكرر فيه الانخفاض.
كنت أخشى النوم تمسكاَ بالحياة حتى لا أدخل في نوبة هبوط للجولوكوز ثم تبعات أخرى تهدد الحياة، وبقيت مستيقظة حتى ارتفع جداً هذا الصديق المهادن لأن الإجهاد والتعب يرفعه وعندها عرفت أنه عصي جداً وموازنته تحتاج جهداً كبيراً ولا يمكن نسيانه أو تجاهله.
والأمر لا يقف على النتيجة من ارتفاع أو انخفاض؛ فالأعراض المصاحبة لكليهما هي الأسوأ وخاصة الانخفاض من حيث الرجفة وفقدان التوازن والإعياء وقوة نبضات القلب.. فحتى تتمكن من نومة هانئة يجب ألا تكون مريض سكر.
حاولت يوماً تجاهل أعراض الانخفاض والنوم رغم صعوبة ذلك في لحظة تحدي مجنون لا مسؤولة.. والحمدلله فتحت عيناي صباح اليوم التالي في غرفتي وبكامل وعيي وسلمت من الموت للمرة الثانية.. الحياة تتمسك بي؛ وعرفت وقتها أن نعمة الحياة التي وهبني الله إياها يجب أن تنال من التقدير ما يفوق ما تناله أي نعمة أخرى في العالم.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إلى من يهمه الأمر!..

هذه التدوينة ليست لمن يبحث عن فائدة!

الزمان يهد الأشياء!